النكبة تحت الجلد

0
26

بقلم/ د. عزيز الفيلي

صدى المعاناة الفلسطينية في جسد مؤلم

“في الخامس عشر من مايو عام 1948، بدأت النكبة الفلسطينية. ففي مساء اليوم السابق، انسحبت آخر قوات الانتداب البريطاني من فلسطين، وتمّ الإعلان عن قيام دولة إسرائيل. خلال أيام من ذلك التاريخ، تم تدمير أكثر من 500 قرية ومدينة فلسطينية وتهجير أكثر من 750 ألف فلسطيني من ديارهم، ليصبحوا لاجئين في غزة والضفة الغربية والدول العربية المجاورة. كانوا يظنون أنهم سيعودون بعد أيام، لكن تلك الأيام امتدت إلى 75 عاماً ولا تزال.”

— من وثائق مركز العودة الفلسطيني (2023)

مفاتيح ضاعت في الدم

كنت أنظر إلى تلك الصور القديمة المنشورة في معرض إلكتروني بمناسبة ذكرى النكبة: شاحنات محملة بأثاث عائلات بأكملها، أطفال ينظرون بحيرة خلفهم، نساء يحملن مفاتيح بيوتهن معلقة في سلاسل حول أعناقهن، شيوخ يمسكون صكوك ملكية لأراضٍ لم يعد بإمكانهم الوصول إليها.

“ماذا تشعر وأنت تترك بيتك مجبراً؟” سؤال طرحه المعرض في أحد زواياه، وعرض إجابات من ناجين من النكبة:

“حملتُ طفلي وصرةً من الملابس ومفتاح البيت. قالوا لنا سنعود بعد أيام. ما زلنا ننتظر.”

“تركت كتبي المدرسية على الطاولة… كان الدرس في منتصفه.”

“لم نودّع الجيران، لم نقل وداعاً للبئر الذي شربنا منه طيلة عمرنا.”

كان المعرض يروي كيف نشأت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين – أكبر وأقدم قضية لجوء في العالم المعاصر. أكثر من خمسة ملايين لاجئ مسجلين لدى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، يعيشون في 58 مخيماً معترفاً به رسمياً في الأردن ولبنان وسوريا والضفة الغربية وقطاع غزة.

كنت أقرأ عن “مسيرات العودة الكبرى” التي ينظمها الفلسطينيون سنوياً. كيف يحملون مفاتيح بيوتهم القديمة وخرائط قراهم، ويتوجهون نحو الحدود، يحدقون في أرض لم يعد بإمكانهم العودة إليها.

وفجأة، في ذلك الصباح من الخامس عشر من مايو، الساعة العاشرة و17 دقيقة بالضبط، شعرت بوخز غريب يسري في أطرافي. كأن تياراً كهربائياً خفيفاً يمر تحت الجلد. ثم ارتجفت يدي اليمنى ارتجافة صغيرة.

لم أعر الأمر اهتماماً. أغلقت الحاسوب وذهبت لأستلقي قليلاً. “ستمر”، هكذا حدثت نفسي. لكن جسدي كان يتحدث بلغة أخرى، وأنا لم أكن أجيد الإصغاء بعد.

هذه هي الطريقة التي تبدأ بها النكبات – في لحظة لا تبدو مهمة على الإطلاق.

خيمةٌ في العظام

“بعد النكبة مباشرة، بدأ الفلسطينيون في إنشاء مخيمات اللجوء… كانت في البداية خياماً. ثم تحولت مع الوقت إلى غرف من الطين ثم من الإسمنت. لكنها ظلت مؤقتة في الوعي الجمعي رغم مرور عقود. الخيمة تحولت إلى بيت، لكن فكرة العودة لم تتحول إلى استسلام.”

هذا ما قالته جدتي، وهي تحكي عن رحلتها من قرية “اللوبية” شمال فلسطين إلى مخيم اليرموك في دمشق. لم أكن أتخيل أن الإنسان يمكن أن يعيش حياة كاملة وهو يشعر أنه في محطة انتظار.

في الصباح التالي لذلك الوخز الغريب، استيقظت وكأن جسدي قد استبدل بآخر خلال الليل. كان الألم منتشراً في مفاصلي كلها. حاولت أن أنهض من الفراش، لكن جسدي استجاب ببطء غريب. تناولت مسكناً، وذهبت إلى العمل متحاملة على نفسي.

“ربما إجهاد عابر،” هكذا طمأنت نفسي.

لكن مع مرور الأيام، بدأت أدرك أن هناك تغييراً جذرياً. بدأ الألم يتجول في جسدي، كما تتجول العائلة الفلسطينية المهجرة بين المخيمات. اليوم في الكتفين، غداً في الورك، بعد غد في المفاصل الصغيرة بين أصابع اليدين.

بدأت عملية التشرد الداخلي، وكنت أتتبع مسار هذا الألم المتنقل بحيرة.

تعايشٌ يحفر القبور

“سياسة الأمر الواقع” مصطلح يستخدم في الشأن الفلسطيني ليصف محاولات المحتل فرض واقع جديد على الأرض يصعب تغييره لاحقاً: بناء المستوطنات، تغيير أسماء القرى، تدمير شواهد التاريخ…

أمام طبيبي الثالث، جلست أعرض سجل أعراضي. ثلاثة أشهر من الألم المتنقل، والإرهاق المتواصل، وضباب الدماغ المستمر.

“كل فحوصاتك سليمة،” قال وهو يتصفح ملفي. “لا وجود للاتهابات، ولا مؤشرات على أمراض مناعية أو عضلية…”

“لكن الألم حقيقي،” قاطعته.

نظر إلي مطولاً، ثم قال: “أعتقد أنك تعانين من متلازمة الألم العضلي الليفي… فيبروميالجيا.”

“وما هذا بالضبط؟”

“هو اضطراب في الجهاز العصبي المركزي يجعله يفسر الإشارات العادية على أنها ألم. يمكننا إدارته لكن لا يوجد علاج نهائي له.”

كلمة “إدارته” رنّت في أذني بغرابة. كنا نسمع دائماً عن “إدارة الصراع” في الشرق الأوسط، وليس “حل القضية الفلسطينية”.

في طريق العودة من العيادة، مررت بمظاهرة صغيرة أمام السفارة الإسرائيلية. كان المتظاهرون يرفعون لافتات كتب عليها “لا للتطبيع مع الاحتلال” و”حق العودة لا يسقط بالتقادم”.

ابتسمت بمرارة. رفض التطبيع مع المحتل شعار أعرفه منذ طفولتي. والآن أواجه مع جسدي ذات الموقف: هل أطبّع مع الألم وأقبله كواقع دائم، أم أرفض التعايش معه؟

خرائط الذاكرة المحتلة

“بعد النكبة، بدأ الفلسطينيون المهجرون برسم خرائط تفصيلية لقراهم من الذاكرة. رسموا كل بيت وبئر وشجرة زيتون. لم تكن هذه الخرائط لأغراض عملية. كانت وسيلة للحفاظ على الذاكرة، وإثبات الوجود، ونقله للأجيال القادمة.”

في الأسبوع الأول بعد التشخيص، بدأت في رسم خرائط تفصيلية لألمي. كرتوغرافيا الوجع. جغرافيا الجسد المحتل.

صنعت لوحاً كبيراً علقته على جدار غرفتي. وضعت عليه رسماً لجسمي، وبدأت أضع علامات بألوان مختلفة: أحمر للألم الحاد، أصفر للألم المتوسط، أخضر للمناطق الآمنة المتبقية.

في إحدى الليالي، وبينما كنت أضيف علامات جديدة إلى خريطتي، لاحظت أمراً غريباً. كان نمط الألم، حين ربطت بين نقاطه، يشكل خطوطاً تشبه إلى حد كبير خريطة فلسطين التاريخية.

ضحكت من المصادفة المُرّة. هل يمكن أن تكون ذاكرة الأرض محفورة في أجسادنا بهذا الشكل؟

دخلت أمي فوجدتني جالسة وسط كومة من الفحوصات الطبية والمذكرات والرسومات. نظرت إليّ بقلق وقالت: “تبدين كأرشيف حيّ.”

تذكرت ما قرأته عن توثيق النكبة. كيف كان كل لاجئ يحمل معه وثائق ملكيته، صكوك أراضيه، مفاتيح بيته… أدلة على حق العودة.

الآن أنا أيضاً أوثّق، أجمع الأدلة على وجود ألم لا يظهر في الصور الطبية. أبني أرشيفاً لحقي في الاعتراف.

صوت الطبيب: لحظة نكبة الروح

“في عيادتي، أستقبل مرضى الألم المزمن يومياً. يأتون وقد تعبوا من التنقل بين الأطباء، مثل لاجئين يبحثون عن مأوى. يطلبون اسماً لما يشعرون به، تشخيصاً يصدّق معاناتهم التي لا ترى بالعين. لحظة التشخيص بالفيبروميالجيا هي لحظة متناقضة – راحة في معرفة أن ألمهم ليس وهماً، وصدمة في إدراك أنه قد لا ينتهي. يفقدون جسداً كانوا يعرفونه، ويكتسبون هوية جديدة. تماماً كما فقد الفلسطينيون وطناً ذات يوم، واكتسبوا هوية جديدة في المنفى – هوية اللجوء والصمود والمقاومة.”

مفتاح لبابٍ لم يُبنَ بعد

تجسّد حق العودة في الوعي الفلسطيني من خلال المفتاح. الملايين من اللاجئين يحتفظون بمفاتيح بيوتهم القديمة، يتوارثونها جيلاً بعد جيل، حتى أصبح المفتاح رمزاً وطنياً. يُعلق على الجدران، يُصنع منه تماثيل ضخمة في مداخل المخيمات، يُرسم على جدران المدارس والمؤسسات.

مفتاح لا يفتح باباً فعلياً، لكنه يفتح باب الأمل.

في ليلة من ليالي الألم الشديد، حلمت بجدتي (الله يرحمها). كانت تقف أمام بوابة قرية “اللوبية” التي هُجّرت منها عام 1948. تحاول أن تفتح القفل لكن المفتاح يتحول في يدها إلى شيء غريب… إلى دواء.

التفتَتْ نحوي وقالت: “ليس كل مفتاح يفتح باباً. بعض المفاتيح تفتح وعياً.”

استيقظت وأنا أفكر في هذا الحلم الغريب. ما معنى أن نمتلك مفتاحاً لباب لم يعد موجوداً؟ وما معنى أن نسعى لعلاج قد لا يكون موجوداً بعد؟

في ذلك الصباح، بدأت رحلة بحث جديدة. قرأت كل ما يمكنني الوصول إليه عن متلازمة الألم المزمن. اكتشفت أن العلم لا يفهمها تماماً بعد، وأن العلاجات الحالية تعالج الأعراض لا الأسباب.

وفي منتصف بحث طبي، وجدت جملة استوقفتني:

“غالباً ما يظهر المرض بعد صدمة جسدية أو نفسية أو تعرض مستمر للضغط والتوتر. كأن الجسد يتذكر الألم ويستمر في استعادته حتى بعد زوال السبب الأصلي.”

تذكّرت دراسة قرأتها عن “جينات الصدمة” لدى أحفاد الناجين من الهولوكوست والمجاعات، وكيف يمكن للصدمة أن تنتقل بيولوجياً عبر الأجيال.

هل يمكن أن يكون جسدي يحمل ذاكرة صدمة لم أعشها شخصياً؟ هل يمكن أن يكون ألمي نوعاً من الذاكرة الجسدية التي تستدعي ألماً جماعياً؟

بينما كنت أفكر في هذه الأسئلة، كان التلفاز مفتوحاً على قناة وثائقية تعرض برنامجاً عن النكبة. كان المذيع يقول: “ورثنا المفاتيح، ورثنا القصص، ورثنا الحنين إلى مكان لم نره أبداً. النكبة ليست حدثاً تاريخياً انتهى، بل هي حالة مستمرة تورث وتعاش كل يوم.”

مخيم الألم الدائم

“مخيمات اللجوء الفلسطينية رغم بؤسها، أصبحت مراكز مقاومة ثقافية. منها خرج الشعراء والروائيون والفنانون. كانت المعاناة نفسها وقوداً للإبداع والحفاظ على الهوية.”

بعد ستة أشهر من التشخيص، بدأت أدرك أن هويتي الجديدة كمريضة بالألم المزمن أصبحت جزءاً أساسياً مني.

“أنا مريضة بالفيبروميالجيا” – هكذا بتّ أعرّف نفسي في المجموعات العلاجية وعند مقابلة أطباء جدد.

تذكرت كيف يعرّف اللاجئون الفلسطينيون أنفسهم: “أنا من يافا” و”أنا من صفد” و”أنا من حيفا”، حتى لو ولدوا في مخيمات اللجوء بعيداً عن تلك المدن، ولم يروها في حياتهم.

تساءلت: هل سأعرّف نفسي دائماً بما فقدت؟ بالجسد الذي كان لي قبل الألم؟ أم سأجد هوية جديدة لا تعتمد على الماضي ولا على الألم؟

في إحدى جلسات العلاج الجماعي، عرّفت امرأة بجانبي نفسها بطريقة مختلفة. قالت: “اسمي سلمى. أعيش مع الفيبروميالجيا منذ عشر سنوات. لكنني أيضاً رسامة، وأم لطفلين، ومعلمة يوغا، ومناصرة لحقوق المرضى.”

لاحظت كيف أن سلمى لم تنكر مرضها، لكنها لم تختزل نفسها فيه أيضاً. كان المرض جزءاً من هويتها، لا كل هويتها.

في تلك الليلة، تمددت على سريري محاطة بالمسكنات والكمادات والكتب. كنت أشبه مخيم لجوء مؤقت صار دائماً.

لكنني تذكرت صورة رأيتها يوماً للاجئ فلسطيني حوّل خيمته إلى حديقة صغيرة. زرع فيها وردة حمراء وكتب بجانبها: “لم يقولوا إنه لا يمكنك أن تزهر في المنفى.”

فكرت: ربما لم يقولوا إنه لا يمكنك أن تزهر في جسد محتل.

طقوس الوجع المقاوم

“في حين فقد الفلسطينيون أرضهم، حافظوا بعناد على تقاليدهم، لغتهم، حكاياتهم، وصفات طعامهم… جعلوا من الحفاظ على الهوية شكلاً من أشكال المقاومة.”

بعد عام من النكبة الجسدية، بدأت أتعلم قوانين هذا الاحتلال الداخلي. متى يشتد الألم وكيف يخف. علامات الطقس الداخلي. أيام الهدوء وأيام الانتفاضات.

بدأت أمارس اليوغا بانتظام. غيرت طريقة تغذيتي. تعلمت تقنيات التنفس العميق. وضعت روتيناً صارماً للنوم. أنشأت شبكة دعم من أصدقاء يفهمون وضعي.

في بعض الصباحات، كنت أستيقظ وكأن اتفاقية هدنة قد وُقّعت مع الألم. أنسى لساعات أن جسدي محتل، وأركض، وأضحك، وأتنفس. ثم، دون سابق إنذار، ينقض الوخز كجيش كامل، فأعود للأسر.

تعلمت أن أحتفل بتلك اللحظات الصغيرة. أن أعتبرها مقاومة.

في إحدى تلك الأيام الجيدة، ذهبت لزيارة متحف يعرض معرضاً عن “الحياة اليومية في ظل الاحتلال”. توقفت أمام صورة لفلاح فلسطيني يزرع شجرة زيتون على أنقاض بيته المهدم. كان الشرح يقول: “حين عاد بعد عشرين عاماً، وجد شجرته قد نمت. قال لابنه: هكذا تقاوم – تزرع وتنتظر.”

“تزرع وتنتظر”…

جملة قصيرة لخصت فلسفة الصمود الفلسطيني. الزرع كفعل إيمان بمستقبل قد لا تراه بنفسك.

خرجت من المتحف بفكرة: أن أزرع البذور الآن، حتى لو لم أكن متأكدة أنني سأرى الحصاد.

استعادة ما لم نملكه بعد

“حق العودة هو حق قانوني مكفول للاجئين الفلسطينيين بموجب القانون الدولي والقرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1948. ورغم مرور 75 عاماً، لا يزال هذا الحق مطلباً أساسياً ورمزاً للنضال الفلسطيني.”

في الذكرى السنوية الأولى لنكبتي، ذهبت إلى طبيبة جديدة متخصصة في الألم المزمن. كانت تختلف عن الأطباء السابقين. لم تنظر إلى شاشة الكمبيوتر أثناء حديثنا. نظرت إلي وقالت: “حدثيني عن تجربتك.”

فتحت قلبي. حدثتها عن الألم، الإرهاق، الرفض الاجتماعي، العزلة، خيبات الأمل، الخوف من المستقبل.

بعد أن أنهيت، نظرت إلي بعمق وقالت: “هناك فرق بين الشفاء والعودة.”

طلبت منها أن توضح.

“الشفاء يعني العودة إلى ما كنا عليه قبل المرض. وهذا قد لا يكون ممكناً دائماً. لكن العودة تعني استعادة السيطرة على حياتك، حتى مع وجود القيود. استعادة لمساحات من الراحة، استعادة للقدرة، استعادة للتوازن.”

كلمة “استعادة” ألهمتني.

في تلك الليلة، فكرت في مفهوم “حق العودة” وكيف يمكن أن ينطبق على علاقتي بجسدي. قرأت عن مشاريع “حق العودة الرمزي”: عن فنانين فلسطينيين يبنون نماذج افتراضية لقرى مدمرة، عن فرق راقصة تؤدي رقصات من القرى الأصلية، عن طهاة يحيون وصفات الطعام التقليدية.

أدركت أن العودة ليست فقط إلى مكان، بل إلى إحساس بالذات، إلى كرامة، إلى انتماء.

وضعت على طاولتي مفتاحاً قديماً. كان مفتاح شقتي السابقة، قبل أن أضطر للانتقال إلى طابق أرضي لأن صعود الدرج أصبح مستحيلاً. وضعته هناك، ليس كرمز للعودة إلى ما كان، بل كتذكير بحقي في استعادة السيطرة على حياتك، حتى لو تغيرت التفاصيل.

رحلة في أرشيف الوجع

صباح اليوم التالي، ١٥ مايو من جديد. يوم النكبة. عام على بداية احتلال جسدي.

جلست أشاهد وثائقياً عن مسيرات العودة في غزة. ألاف الفلسطينيين يتجمعون قرب الحدود، يحملون مفاتيح عملاقة وخرائط لقراهم المدمرة، يهتفون “عائدون”.

تأملت كيف أن مفهوم العودة ظل حياً عبر ثلاثة أجيال. كيف أن أحفاد اللاجئين الأصليين يشعرون بالحنين إلى أماكن لم يروها قط. كيف أن الذاكرة الجماعية يمكن أن تكون أقوى من الواقع المعاش.

كتبت في مذكرتي:

“إلى من كنت، اشتقت إليك كثيراً. لكنك لست بعيداً كما أظن. أنت هنا، في طريقة ضحكي، في كتبي المفضلة، في الرغبة العنيدة بالحياة.

اليوم أرسم خريطة جديدة لجسدي. خريطة لا تعتمد الألم كمعلَم وحيد. خريطة تضم أيضاً الواحات والجزر والمقامات الصغيرة.

تعلمت من هذه النكبة ما تعلمه الفلسطيني من نكبته: أن الوطن ليس مجرد أرض، بل هو الإصرار على تذكّر الفرح حتى في المنفى.

لا أعرف إن كنت سأعود يوماً إلى جسدك الخالي من الألم. لكنني أعرف أنني لن أتخلى عن حق العودة هذا، حتى لو كان حلماً.”

وقفت بجانب النافذة المفتوحة، أنظر إلى الخارج. كانت الشمس تشرق بعناد فوق المدينة، تماماً كما تشرق كل يوم فوق المخيمات والقرى المدمرة والمدن المحتلة. هي ذاتها الشمس التي أشرقت في الخامس عشر من مايو عام 1948، حين بدأت النكبة الكبرى.

تذكرت ما قرأته عن تلك الأيام: كيف استيقظ الفلسطينيون صباحاً على حياة طبيعية، وناموا مساءً وقد صاروا لاجئين. كيف أن الحاضر يمكن أن ينقسم إلى “ما قبل” و”ما بعد” في لحظة واحدة فاصلة.

هكذا كانت نكبتي أنا أيضاً: استيقظت ذات صباح وجسدي لي، ونمت وقد صار محتلاً.

وقد يكون هذا هو الدرس الأعمق: أن نفس اليوم الذي يحمل الحزن، يحمل معه بذور الصمود. أن الشمس ستشرق حتى في أكثر الأيام عتمة.

لجنة ذاكرة للجسد المنسي

يروي مؤرخ النكبة الفلسطينية وليد الخالدي كيف أن أحد آليات البقاء لدى اللاجئين كانت تأسيس “لجان العودة” في كل مخيم. جماعات تجتمع لتتذكر، لتوثّق، لترسم الخرائط، لتحكي القصص، لتتعلم الدبكة الشامية، لتتبادل وصفات الطعام التقليدي، لتنسج الثوب الفلسطيني المطرز.

لم تكن هذه مجرد أنشطة فولكلورية. كانت أفعال مقاومة يومية. إثبات أن الهوية لا تموت بفقدان الأرض.

بعد عام ونصف من نكبتي الجسدية، قررت أن أؤسس “لجنة عودة” خاصة بي. التحقت بمجموعة دعم لمرضى الألم المزمن. كنت أذهب مرتين في الأسبوع لألتقي بأشخاص يفهمون ما أعيشه.

ذات مساء، كنا نناقش الإرهاق المزمن المرافق للمرض. قالت سيدة تدعى سهام: “في أيام الإرهاق الشديد، أشعر كأنني مخيم بأكمله من النازحين، وليس مجرد شخص واحد.”

ضحكنا جميعاً، لكن المشرفة على المجموعة، الدكتورة رنا، لاحظت شيئاً. قالت: “أرى أنكم جميعاً تستخدمون استعارات مشابهة: الاحتلال، النزوح، الحصار، المقاومة… ما سر هذا؟”

صمتنا للحظة، ثم أجبت: “ربما لأن ما نمر به هو نوع من النكبة الشخصية.”

عندها، طرحت الدكتورة رنا فكرة: أن نكتب قصصنا بهذه الطريقة – ربط تجربتنا الشخصية بالنكبة والصراع الفلسطيني. قالت إن هذا قد يساعدنا ليس فقط في التعبير عن ألمنا، بل في توثيقه، فهمه، استيعابه، وربما تحويله إلى شيء آخر.

في الجلسة التالية، حضرت ومعي مقتطفات من كتاب “باب الشمس” لإلياس خوري، الذي يروي حكايات اللجوء. قرأت لهم:

“لا يعرف المرء وطنه إلا حين يفقده، ولا يدرك معنى أن يكون سليماً معافى إلا حين يصبح جسده أرضاً للألم.”

قال لي عماد، أحد أعضاء المجموعة: “هل تعرفين أن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين لم تُبنَ بشكل عشوائي؟ بل محاكاة للقرى الأصلية. يسكن أهل القرية الواحدة في نفس الحي من المخيم، ويسمون الأزقة بأسماء حاراتهم القديمة.”

فكرت في كيف أعيد ترتيب حياتي اليومية. أسمي أوقات الراحة “الواحات”، وأوقات الألم الشديد “الحصار”، ولحظات التقدم “الانتصارات الصغيرة”.

كانت استعارات المقاومة تمنحنا لغة للتعبير عن تجربة لا توجد لها كلمات كافية.

امرأة من ضوء ودم

“تاريخ النكبة مليء بقصص الصمود الفردي. مثل قصة أم خالد التي رفضت مغادرة بيتها في القدس عام 1948، واعتصمت به وحدها وسط الهجوم. استمرت ست أيام محاصرة حتى اقتحم الجنود بيتها. كانت المرأة الفلسطينية الوحيدة المتبقية في ذلك الحي. حين سألوها: لماذا لم تغادري؟ أجابت: لأن هذا بيتي، وأنا سأبقى فيه إلى أن أموت.”

قصة مثل هذه تعطي معنى مختلفاً للصمود. ليس الصمود هو النصر دائماً، بل أحياناً هو مجرد البقاء – البقاء كشاهد، كدليل، كتذكرة.

قبل عامين من الآن، كنت أحلم بمستقبل مختلف تماماً. الزواج، أطفال، مشاريع مهنية، سفر، مغامرات… ثم اجتاح جسدي الألم، فصارت أحلامي أبسط: يوم بلا ألم، نوم هادئ، طاقة تكفي لإنجاز المهام اليومية.

لكن في ذلك الصباح من الذكرى الثانية لنكبتي الجسدية، استيقظت بفكرة جديدة. ربما الصمود ليس فقط في تحمل الألم، بل في العيش رغمه. ليس في البكاء على ما فُقد، بل في بناء شيء جديد على أنقاضه.

فتحت دفتري وكتبت:

“ما تعلمته من الفلسطينيين: الذين هُجّروا زرعوا حدائق في المخيمات. الذين فقدوا بيوتهم احتفظوا بمفاتيحها. الذين مُنعوا من العودة احتفلوا بطقوسهم في المنفى. الذين حوصروا أبدعوا فناً وأدباً. الذين فقدوا كل شيء، لم يفقدوا الأمل.”

حنين إلى جسدٍ لم أعرفه

في ذلك المساء، جلست مع والدتي أشاهد وثائقياً عن “العودة الرمزية”. كان يعرض مشروعاً فنياً حيث قام شباب فلسطينيون بتصميم نماذج ثلاثية الأبعاد للقرى المدمرة باستخدام شهادات كبار السن وصور الأرشيف. ثم يرتدون نظارات الواقع الافتراضي ليتجولوا في قرى أجدادهم.

قال أحدهم: “لم أزر قرية جدي المدمرة إلا عبر هذه النظارات، لكنني أشعر أنني أعرف كل زاوية فيها. هذا نوع من العودة.”

نظرت إلي أمي وقالت: “هذا ما فعلته جدتك. وهي في سرير الموت، كانت تصف لي بيتها في فلسطين بكل تفاصيله: عتبة الباب، الدرجات السبع إلى السطح، شجرة التوت في الفناء، نقش المفتاح، رائحة العلية… لم أزر ذلك البيت قط، لكنني أشعر أنني عشت فيه.”

فكرت في كيف أن الذاكرة يمكن أن تكون وطناً بديلاً، وكيف أن الحنين يمكن أن ينتقل حتى إلى من لم يعش الفقدان الأصلي.

تساءلت: هل يمكن أن ينتقل الألم أيضاً عبر الأجيال؟ هل يمكن أن يكون ألمي جزءاً من ذاكرة جسدية جماعية؟

طلبت من أمي أن تحكي لي مجدداً عن آخر أيام جدتي. قالت: “رغم مرضها الشديد، لم تكن تتحدث عن ألمها أبداً. كانت تقول: الألم مثل الاحتلال، لا تطبّعي معه.”

ابتسمت وأنا أفكر كيف أن جدتي ربما زرعت في بذرة مقاومة لم أكن أعرف أنني أحملها.

مفاوضات مع الاحتلال الداخلي

توطين اللاجئين هو مصطلح يستخدم في السياسة الدولية للإشارة إلى إعادة توطين اللاجئين بشكل دائم في البلدان المضيفة، والتخلي عن حق العودة. يرفض الفلسطينيون منذ سبعة عقود هذا الخيار. يقولون: “الوطن ليس عقاراً يُباع أو يُستبدل.”

فكرت في كم مرة حاول الأطباء “توطيني” في واقع المرض. “هذا وضعك الجديد، تأقلمي معه.” لكن هناك فرق بين التعايش كضرورة والتطبيع كاستسلام.

الدكتورة رنا عرّفتنا على مفهوم “العيش مع المرض، لا فيه”. شرحت: “المرض جزء من حياتك الآن، لكنه ليس كل حياتك.”

في مجموعة الدعم، صارت بيننا عبارة: “نحن لا نطبّع مع الألم، نحن نفاوضه.”

تعلمنا أن نقول: “أنا شخص يعيش مع متلازمة الألم المزمن” بدلاً من “أنا مريض الفيبروميالجيا.” فرق دقيق في اللغة، لكنه يغيّر كيف نرى أنفسنا.

كما تعلمنا أن نقسّم الألم إلى: “ألم تحذيري” (نستمع له ونحترمه) و”ألم عشوائي” (نتجاهله قدر الإمكان) و”ألم محتل” (نقاومه).

كل هذه استعارات ساعدتنا في ترسيم خرائط ألمنا، وتحويل الفوضى الداخلية إلى شيء يمكن فهمه.

زيتونة على حافة الألم

“رغم سنوات المعاناة، لا يزال حق العودة حياً في الوعي الفلسطيني. الأطفال في المخيمات يستطيعون وصف بيوت أجدادهم بدقة، رغم أنهم لم يروها قط. المسنون يحتفظون بمفاتيح بيوت لم تعد موجودة. الفنانون يرسمون قرى مدمرة كأنها حاضرة. هذا ليس حنيناً عادياً، بل إصراراً على أن بعض الحقوق لا تموت مع مرور الزمن.”

في الذكرى الثالثة لنكبتي الجسدية، قررت أن أفعل شيئاً مختلفاً. بدلاً من الحداد على الجسد الذي فقدته، قررت الاحتفال بالجسد الذي ما زال معي.

دعوت أعضاء مجموعة الدعم إلى بيتي. الدكتورة رنا، سهام، عماد، وآخرين. أعددنا طعاماً فلسطينياً تقليدياً – مقلوبة وكنافة – وصفة جدتي. وضعنا أغاني فيروز وسيد درويش. وعلى الحائط، علقت خريطة كبيرة لفلسطين التاريخية، وبجانبها خريطة لجسم الإنسان.

سألنا الدكتورة رنا: “لماذا نجد عزاءً في التشبيه بين معاناتنا والنكبة الفلسطينية؟”

فكرنا جميعاً، ثم أجاب عماد: “لأن النكبة الفلسطينية ليست قصة ضحايا، بل قصة صمود. كلما قرأت عن اللاجئين الفلسطينيين، أشعر أنهم أقوى مني. يعيشون في ظروف لا أتخيل أن أتحملها. ومع ذلك، لا يستسلمون. عندما أشبّه ألمي بألمهم، أستعير بعضاً من قوتهم.”

هزت الدكتورة رنا رأسها موافقة وقالت: “وأيضاً لأن الفلسطينيين منحوا معاناتهم معنى. لم يغرقوا فيها، بل حولوها إلى قضية، إلى نضال، إلى هوية، إلى ثقافة، إلى فن. هم لا يعانون فقط، بل يقولون شيئاً من خلال معاناتهم.”

تحدثنا طويلاً عن كيف يمكننا نحن أيضاً أن نمنح ألمنا معنى. كيف نحوله من مجرد معاناة صامتة إلى شيء آخر – إلى تضامن مع الآخرين، إلى فن، إلى توعية، إلى رسالة.

قبل أن يغادر الضيوف، اقترحت سهام أن نتبنى تقليداً فلسطينياً: زراعة شجرة زيتون. الزيتون رمز الصمود والجذور والشفاء.

“لنزرع شجرة زيتون تمثل مجموعتنا. حتى في الأيام التي لا نستطيع فيها الحركة، ستنمو هي نيابة عنا.”

في اليوم التالي، فعلنا ذلك. زرعنا شجرة صغيرة في حديقة مركز التأهيل. وضعنا تحتها لوحة نقشنا عليها:

“من نكبة إلى نكبة، نزرع الصمود. هذه الشجرة مهداة إلى كل من فقد وطناً – وطناً حقيقياً أو وطناً داخلياً – ولم يفقد الأمل في العودة.”

الكلمات الأخيرة: تحت جلد الذاكرة

وفي كل مرة أمر بجانب تلك الشجرة، أتذكر أن آلامي ليست مجرد علامات عضوية في الجسد، بل هي أيضاً رموز لحكاية أكبر – حكاية صراع بين الذاكرة والنسيان، بين المقاومة والاستسلام، بين فردية المعاناة وجماعية التجربة الإنسانية.

أحياناً، في لحظات نادرة من الصفاء، أفكر أن التشبيه ربما كان في الاتجاه الخاطئ. ربما الفلسطينيون لم يختاروا المقاومة لأنهم أقوياء استثنائيون، بل لأن المقاومة هي الاستجابة الطبيعية للجسد والروح حين يواجهان محاولة محوهما. تماماً مثل الألم – الذي هو مقاومة الجسد لما يهدده.

ربما نحن، مرضى الألم المزمن، لسنا ضعفاء. ربما نحن أجساد في حالة مقاومة دائمة، في نكبة مستمرة، وفي حلم عودة لا ينتهي.

“النكبة ليست حدثاً تاريخياً انتهى. إنها جرح مفتوح يعاد فتحه كل يوم. والجسم الذي يعاني من ألم مزمن يفهم معنى الذاكرة التي لا تهدأ، والألم الذي ينتقل بين الأجيال، وإصرار الروح على أن تتذكر ما كانت عليه، حتى وهي تصنع لنفسها هوية جديدة من خلال المعاناة والمقاومة. فمن يزرع فينا نكبة، لا يعرف أننا سنزرع فيها، رغم كل شيء، بذور استعادة.”